الأربعاء، 17 فبراير 2010

عم كمال...رئيس جامعة الرصيف المفتوحة بالإسكندرية




عم كمال...رئيس جامعة الرصيف المفتوحة بالإسكندرية

طفل صغير توقف في محطة ترام كليوباترا و معه مصروفه اليومي الذي لا يتجاوز الجنيه كانت عيناه تنتقل بين مجلة صغيرة للأطفال و كيس من الحلوى غير قادر على اتخاذ القرار.. على أي شيء ينفق هذا الجنيه؟،

من تلك النظرات بدأت شرارة مشروع عم كمال الذي تساءل لم لا يساعد هذا الطفل و غيره على تنمية حب القراءة في مجتمع يعلي من شأن كيس حلوى على قراءة كتاب.


كتب - عبد الرحمن يوسف . جريدة الشروق طبعة الإسكندرية  8 / 2 / 2010



تربى عم كمال بين صفحات الجرائد و قرأ للعقاد و توفيق الحكيم و زكي مبارك الذي التقاه في السادسة من عمره و غيرهم من كبار الكتاب و الفلاسفة العرب والأجانب لذا كان من الطبيعي أن يطلق مشروعه منذ 18 عام.

عندما بدأ المشروع كان مجرد بائع صحف، المهنة التي ورثها عن والده و هو واحد من أوائل موزعي الصحف في الإسكندرية حيث بدأ عمله بعد نهاية الحرب العالمية الأولى بعشر سنوات وهو من أورث ابنه حب القراءة و علمه أهمية الثقافة وكان في العشرينات من عمره سكرتيرا عام لنقابة بائعي الصحف و التي كانت تقع في شارع فؤاد.

قرر عم كمال الشيخ في أول الأمر أن يسهم بالقدر المتاح له في مساعدة هؤلاء الأطفال المتطلعين و المتعطشين للقراءة، فكان يعطي كل طفل من أبناء المنطقة يأتي مع والده لشراء الجريدة مجلة أو قصة على سبيل الاستعارة المجانية و استعارة بثمن رمزي للأطفال من خارج الحي ، فالإنسان برأيه "إذا ما انغمس في عالم القراءة أخذ نصيبه من الإدراك و الوعي في منظومة إعمار الأرض".

استمر الأمر على هذا النحو حتى قرر البدء في التخطيط لمكتبة صغيرة يجمع فيها ما يشبع نهم الأطفال في شتى فروع المعرفة و قام أحد أصدقائه – و كان أمينا لمكتبة البحرية – بمشاركته في تصميم نموذج عضوية و صفحة خاصة يدون عليها الطفل عنوان المطبوعة المستعارة و تاريخ استعارتها و إرجاعها حتى يتمكن من استعارة ما يشاء من مجلات و قصص و كتب مجانا و في أي وقت يشاء.

و اقتطع الشيخ جزء من دخل بيته لإتمام هذا الأمر و دون تمويل أو مساهمة من أحد وسط تشجيع زوجته و ابنته الوحيدة التي درست الآداب بجامعة الإسكندرية.

في عامه الأول نجحت التجربة بتسجيل 950 عضو تتراوح أعمارهم بين 6 سنوات و 12 سنة و هو السن الذي اعتمده في تطبيق تجربته،وعندما شعر الناس بصدق هذه التجربة و لمسوا آثارها الإيجابية على أبنائهم،بدأت مساهمتهم تتزايد و لم تكن هذه المساهمات في فروع المعرفة التي تخص الطفل فقط،

 بل امتدت إلي كتب فكرية و ثقافية للكبار وهو ما لفت نظر عم كمال إلي فكرة أخرى في إدارة المكان تعمق من إحساس الطفل بمسئوليته اتجاه القراءة،

ففتح باب لاستعارة هذه الكتب الثقافية و الفكرية للكبار شريطة أن يكون الضامن طفل من الصغار تسجل هذه المجلة أو هذا الكتاب على كراسة استعارته فأصبح الصغير هو من يضمن الكبير فهذه المكتبة هي جامعته و حق على الكبير أن يستأذنه قبل الدخول.

وقرر أن يستمر المشروع بجهوده الذاتية رافضا أي تمويلات مادية من أي أحد مرحبا في الوقت ذاته بأي كتب يشارك بها الناس في إثراء مكتبته الصغيرة فهو يعلم أن مشروعه إذا دخله التمويل ربما يفرض عليه إملاءات تحاول تحيده عن خطه الذي رسمه لنفسه في صناعة الطفل القارئ بصورة متزنة تجمع بين تنقية الروح و بناء العقل بصورة وطنية خالصة.

حين سألت عم كمال الشيخ "رئيس جامعة الرصيف المفتوحة" – كما يصف نفسه – عن سر اهتمامه بهذا المشروع رغم أنه يقتطع له من دخله و لا يقبل فيه تمويلا ماديا من أحد نظر إلي طويلا بخبرة رجل خبر الحياة و بلغ 74 عاما بين جنبات الصحف و الثقافة و الفكر،

و أجاب بنبرة هادئة وواثقة "الحياة مبنية على المعرفة و المعرفة تحتاج إلي وسيلة لكي تدرك معنى الحياة و القارئ هو مشروع مبدع قادم لأنه عرض ذاته على دفق الإبداعات من كل صوب و حدب".

النجاح الذي حققه عم كمال في تجربته الصغيرة على رصيف محطة الترام جعلته يسعى لبناء جسر بين الجار و الجار في كل شارع سواء كان طفلا أو أما أو أبا و كان الكتاب هو الأداة التي استخدمها للربط بينهم.

فنقل التجربة إلي الشوارع و البيوت لتذهب المعرفة إلي الأطفال في بيوتهم مصحوبة بقيم التعاون و القيادة و حسن الجيرة بين الأطفال و بين آبائهم أيضا.

فأنشأ مكتبة صغيرة بجهود أبناء شارع والي يكن بمنطقة كليوباترا بمداخل أحد عماراته و عين لها أمينا و مساعدا من أصدقاء المكتبة ليستعير منها أبناء الشارع مباشرة مجانا ثم طبع ( بادج ) لهؤلاء الأطفال القادة لحمل هذه المسئولية تحت إشرافه و كادت فكرته تمتد إلي بقية شوارع المنطقة لولا صعوبة المتابعة و الإشراف و ضيق ذات اليد.

و لم يكتف آنذاك بتعميق حسن الجيرة بين الأبناء فقرر أن يعطي أمهاتهم مجلات للطبخ مجانا بشرط أن يعطوها لجيرانهم في الشارع ليقرأوها من بعدهم فتكون جسرا للتواصل بينهم.

ورغم التكريم الذي حصل عليه من القناة الخامسة في صورة شهادة تقدير إلا أن التقدير الأكبر له يظل متعلقا بهؤلاء الأطفال الذين أصبحوا رجالا و سيدات ويأتون بأطفالهم ليستعيروا منه مثلما كانوا يفعلون في الصغر،

هذا غير المتطوعين من أعضاء المكتبة الذين التصقوا بها واعتبروه أبا روحيا لهم في اتخاذ القراءة منهج حياة فشمروا عن ساعد الجد ليعاونوه حتى ينال آخرين مثلهم هذه الفرصة في تلقي الثقافة و العلم، بالإضافة إلي هؤلاء الشباب الذين لم تمنعهم دراستهم في كليات الطب و الهندسة و التجارة من زيارته من حين لآخر للاطمئنان عليه.

إذا جلست مع عم كمال في مكتبته التي انتقلت من رصيف محطة ترام كليوباترا للرصيف المقابل أمام كنيسة العذراء ستلمس حب الناس لهذا الرجل الذي أسهم في تشكيل وعي الجزء الأكبر من أبناء منطقته، فهذا ليس غريبا على رجل عندما تقدمت به السن لا يجد حرجا في دخول الكنيسة المقابلة لمكتبته للوضوء من أجل الصلاة.

يتبقى لعم كمال الشيخ أمنية واحدة و هي أن يستمر مشروعه هذا إما عن طريق تبني مؤسسة موثوق فيها لإدارته مع إشراكه في هذا المشروع الذي يعتبره ابنه الثاني لتقديم خبرته التي امتدت في عالم الصحف قرابة 60 عام في بناء الطفل القارئ قرابة 18عام.